يحكى
أن أحدهم ضاقت به سبل العيش ، فسئم الحياة وقرر أن يهيم على وجهه في بلاد
الله الواسعة ، فترك بيته وأهله وغادر المنطقة متجهاً نحو الشرق ، وسار
طويلاً حتى وصل بعد جهدٍ كبير ومشقةٍ عظيمة إلى منطقة شرقيّ الأردن ،
وقادته الخطى إلى بيت أحد الأجواد الذي رحّب به وأكرم وفادته ، وبعد انقضاء
أيام الضيافة سأله عن غايته ، فأخبره بها ، فقال له المضيف : ما رأيك أن
تعمل عندي على أن أعطيك ما يرضيك ، ولما كان صاحبنا بحاجة إلى مكان يأوي
إليـه ، وإلى عملٍ يعمل فيه اتفق معه على ذلك .
وعمل الرجل
عند مضيفه أحياناً يرعى الإبل وأحياناً أخرى يعمل في مضافته يعدّ القهوة
ويقدمها للضيوف ، ودام على ذلك الحال عدة سنوات كان الشيخ يكافئه خلالها
ببعض الإبل والماشية .
ومضت عدة
سنوات اشتاق فيها الرجل لبيته وعائلته وتاقت نفسُه إلى بلاده وإلى رؤية
أهله وأبنائه ، فأخبر صاحب البيت عن نيته في العودة إلى بلده ، فعزّ عليه
فراقه لصدقه وأمانته ، وأعطاه الكثير من المواشي وبعض الإبل وودّعه وتمنى
له أن يصل إلى أهله وهو بخير وسلامة .
وسار الرجل
ما شاء الله له أن يسير ، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصحراء القاحلة رأى
شيخاً جالساً على قارعة الطريق ، ليس عنده شيء سوى خيمة منصوبة بجانب
الطريق ، وعندما وصل إليه حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان
الخالي وتحت حرّ الشمس وهجير الصحراء ، فقال له : أنا أعمل في التجارة .
فعجب الرجل وقال له : وما هي تجارتك يا هذا ، وأين بضاعتك ؟
فقال له الشيخ : أنا أبيع نصائح .
فقال الرجل : تبيع نصائح ، وبكم النصيحة ؟!
فقال الشيخ : كلّ نصيحة ببعير .
فأطرق
الرجل مفكراً في النصيحة وفي ثمنها الباهظ الذي عمل طويلاً من أجل الحصول
عليه ، ولكنه في النهاية قرر أن يشتري نصيحة مهما كلفه الأمر فقال له : هات
لي نصيحة ، وسأعطيك بعيراً ؟
فقال له الشيخ :" إذا طلع سهيل لا تأمَن للسيل " .
ففكر الرجل
في هذه النصيحة وقال : ما لي ولسهيل في هذه الصحراء الموحشة ، وماذا تنفعني
هذه النصيحة في هذا الوقت بالذات . وعندما وجد أنها لا تنفعه قال للشيخ :
هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك بعيراً آخر .
فقال له الشيخ : " أبو عيون بُرْق وأسنان فُرْق لا تأمن له " .
وتأمل
صاحبنا هذه النصيحة أيضاً وأدارها في فكره ولم يجد بها أي فائدة ، فقال
والله لأغامرنّ حتى النهاية حتى لو ضاع تعبي كلّه في دقائق معدودة ، فقال
للشيخ هات النصيحة الثالثة وسأعطيك بعيراً آخر .
فقال له : " نام على النَّدَم ولا تنام على الدم " .
ولم تكن
النصيحة الثالثة أفضل من سابقتيها ، فترك الرجل ذلك الشيخ وساق ما معه من
مواشٍ وسار في طريقه ، وظل يسير لعدة أيام نسي خلالها النصائح من كثرة
التعب وشدّة الحر ، وفي أحد الأيام أدركه المساء فوصل إلى قوم من العربان
قد نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع وادٍ كبير ، فتعشّى عند أحدهم وباتَ عنده ،
وفي الليل وبينما كان ساهراً يتأمل النجوم طلع نجم سُهيل ، وعندما رآه
الرجل تذكّر النصيحة التي قالها له الشيخ ففرّ مذعوراً ، وأيقظَ صاحب
البيت
وأخبره بقصة النصيحة ، وطلب منه أن يخبر قومه حتى يخرجوا من قاع ذلك الوادي
، ولكن المضيف سخر منه ومن قلّة عقله ولم يكترث له ولم يأبه لكلامه ، فقال
والله لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي ، فقرر أن
يبيت على مكان مرتفع ، فأخذ جاعِدَهُ ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي .
وفي أواخر
الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان ، ولم يُبقِ سوى بعض
المواشي . وساق الرجل ما تبقى من المواشي وأضافها إلى مواشيه ، وأنعق لها
فتبعته وسار في طريقه عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت في
الصحراء ، فرحب به صاحب البيت وكان رجلاً نحيفاً خفيف الحركة ، وأخذ يزيد
في الترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه خيفة ، فنظر إليه وإذا به " ذو
عيون بُرْق وأسنان فُرْق " فقال : آه هذا الذي أوصاني عنه الشيخ ، إن به
نفس المواصفات لا ينقص منها شيء .
وفي الليل
تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريباً من مواشيه وأغنامـه ،
وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضع حجارة تحت اللحاف ، وانتحى مكاناً
غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه ، وبعد أن أيقن المضيف أن ضيفه قد نام
،خاصة بعد أن لم يرَ حراكاً له ، أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله
ولما لم يسمع منه أية حركة تأكد له أنه نائم بالفعل ، فعاد وأخذ سيفه وتقدم
منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة ، ولكن الضيف كان يقف وراءه فقال
له : لقد اشتريت والله النصيحة ببعير ثم ضربه بسيفه فقتلـه ، وساق ماشيته
وغاب في أعماق الصحراء .
وبعد مسيرة
عدة أيام وصل في ساعات الليل إلى منطقة أهله ، فوجد مضارب قومه على حالها ،
فترك ماشيته خارج الحيّ ، وسار ناحية بيته ورفع الرواق ودخل البيت فوجد
زوجته نائمة وبجانبها شاب طويل الشعر ، فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه
وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين ، وفجأة تذكر النصيحة الثالثة التي تقول
" نام على الندم ولا تنام على الدم " ، فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم
على حالهم ، وخرج من البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها
حتى الصباح
، وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفه الناس ورحبوا به ،
واستقبله أهل بيته وقالوا : والله من زمان يا رجل ، لقد تركتنا منذ فترة
طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلاً ، ونظر الرجل إلى ابنه
وإذا به ذلك الشاب الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته فحمد الله على سلامتهم
، وشكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم وقال بينه وبين نفسه والله إن كل نصيحة
أحسن من بعير ، وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن إذا فهمناها وعملنا بها في الوقت المناسب .
أن أحدهم ضاقت به سبل العيش ، فسئم الحياة وقرر أن يهيم على وجهه في بلاد
الله الواسعة ، فترك بيته وأهله وغادر المنطقة متجهاً نحو الشرق ، وسار
طويلاً حتى وصل بعد جهدٍ كبير ومشقةٍ عظيمة إلى منطقة شرقيّ الأردن ،
وقادته الخطى إلى بيت أحد الأجواد الذي رحّب به وأكرم وفادته ، وبعد انقضاء
أيام الضيافة سأله عن غايته ، فأخبره بها ، فقال له المضيف : ما رأيك أن
تعمل عندي على أن أعطيك ما يرضيك ، ولما كان صاحبنا بحاجة إلى مكان يأوي
إليـه ، وإلى عملٍ يعمل فيه اتفق معه على ذلك .
وعمل الرجل
عند مضيفه أحياناً يرعى الإبل وأحياناً أخرى يعمل في مضافته يعدّ القهوة
ويقدمها للضيوف ، ودام على ذلك الحال عدة سنوات كان الشيخ يكافئه خلالها
ببعض الإبل والماشية .
ومضت عدة
سنوات اشتاق فيها الرجل لبيته وعائلته وتاقت نفسُه إلى بلاده وإلى رؤية
أهله وأبنائه ، فأخبر صاحب البيت عن نيته في العودة إلى بلده ، فعزّ عليه
فراقه لصدقه وأمانته ، وأعطاه الكثير من المواشي وبعض الإبل وودّعه وتمنى
له أن يصل إلى أهله وهو بخير وسلامة .
وسار الرجل
ما شاء الله له أن يسير ، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصحراء القاحلة رأى
شيخاً جالساً على قارعة الطريق ، ليس عنده شيء سوى خيمة منصوبة بجانب
الطريق ، وعندما وصل إليه حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان
الخالي وتحت حرّ الشمس وهجير الصحراء ، فقال له : أنا أعمل في التجارة .
فعجب الرجل وقال له : وما هي تجارتك يا هذا ، وأين بضاعتك ؟
فقال له الشيخ : أنا أبيع نصائح .
فقال الرجل : تبيع نصائح ، وبكم النصيحة ؟!
فقال الشيخ : كلّ نصيحة ببعير .
فأطرق
الرجل مفكراً في النصيحة وفي ثمنها الباهظ الذي عمل طويلاً من أجل الحصول
عليه ، ولكنه في النهاية قرر أن يشتري نصيحة مهما كلفه الأمر فقال له : هات
لي نصيحة ، وسأعطيك بعيراً ؟
فقال له الشيخ :" إذا طلع سهيل لا تأمَن للسيل " .
ففكر الرجل
في هذه النصيحة وقال : ما لي ولسهيل في هذه الصحراء الموحشة ، وماذا تنفعني
هذه النصيحة في هذا الوقت بالذات . وعندما وجد أنها لا تنفعه قال للشيخ :
هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك بعيراً آخر .
فقال له الشيخ : " أبو عيون بُرْق وأسنان فُرْق لا تأمن له " .
وتأمل
صاحبنا هذه النصيحة أيضاً وأدارها في فكره ولم يجد بها أي فائدة ، فقال
والله لأغامرنّ حتى النهاية حتى لو ضاع تعبي كلّه في دقائق معدودة ، فقال
للشيخ هات النصيحة الثالثة وسأعطيك بعيراً آخر .
فقال له : " نام على النَّدَم ولا تنام على الدم " .
ولم تكن
النصيحة الثالثة أفضل من سابقتيها ، فترك الرجل ذلك الشيخ وساق ما معه من
مواشٍ وسار في طريقه ، وظل يسير لعدة أيام نسي خلالها النصائح من كثرة
التعب وشدّة الحر ، وفي أحد الأيام أدركه المساء فوصل إلى قوم من العربان
قد نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع وادٍ كبير ، فتعشّى عند أحدهم وباتَ عنده ،
وفي الليل وبينما كان ساهراً يتأمل النجوم طلع نجم سُهيل ، وعندما رآه
الرجل تذكّر النصيحة التي قالها له الشيخ ففرّ مذعوراً ، وأيقظَ صاحب
البيت
وأخبره بقصة النصيحة ، وطلب منه أن يخبر قومه حتى يخرجوا من قاع ذلك الوادي
، ولكن المضيف سخر منه ومن قلّة عقله ولم يكترث له ولم يأبه لكلامه ، فقال
والله لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي ، فقرر أن
يبيت على مكان مرتفع ، فأخذ جاعِدَهُ ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي .
وفي أواخر
الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان ، ولم يُبقِ سوى بعض
المواشي . وساق الرجل ما تبقى من المواشي وأضافها إلى مواشيه ، وأنعق لها
فتبعته وسار في طريقه عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت في
الصحراء ، فرحب به صاحب البيت وكان رجلاً نحيفاً خفيف الحركة ، وأخذ يزيد
في الترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه خيفة ، فنظر إليه وإذا به " ذو
عيون بُرْق وأسنان فُرْق " فقال : آه هذا الذي أوصاني عنه الشيخ ، إن به
نفس المواصفات لا ينقص منها شيء .
وفي الليل
تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريباً من مواشيه وأغنامـه ،
وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضع حجارة تحت اللحاف ، وانتحى مكاناً
غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه ، وبعد أن أيقن المضيف أن ضيفه قد نام
،خاصة بعد أن لم يرَ حراكاً له ، أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله
ولما لم يسمع منه أية حركة تأكد له أنه نائم بالفعل ، فعاد وأخذ سيفه وتقدم
منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة ، ولكن الضيف كان يقف وراءه فقال
له : لقد اشتريت والله النصيحة ببعير ثم ضربه بسيفه فقتلـه ، وساق ماشيته
وغاب في أعماق الصحراء .
وبعد مسيرة
عدة أيام وصل في ساعات الليل إلى منطقة أهله ، فوجد مضارب قومه على حالها ،
فترك ماشيته خارج الحيّ ، وسار ناحية بيته ورفع الرواق ودخل البيت فوجد
زوجته نائمة وبجانبها شاب طويل الشعر ، فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه
وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين ، وفجأة تذكر النصيحة الثالثة التي تقول
" نام على الندم ولا تنام على الدم " ، فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم
على حالهم ، وخرج من البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها
حتى الصباح
، وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفه الناس ورحبوا به ،
واستقبله أهل بيته وقالوا : والله من زمان يا رجل ، لقد تركتنا منذ فترة
طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلاً ، ونظر الرجل إلى ابنه
وإذا به ذلك الشاب الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته فحمد الله على سلامتهم
، وشكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم وقال بينه وبين نفسه والله إن كل نصيحة
أحسن من بعير ، وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن إذا فهمناها وعملنا بها في الوقت المناسب .